يناير 14، 2007

قرأت لك : وقفات على طريق البحث العلمي.

من مذكرات باحث علمي أخي الباحث ، أختي الباحثة :أضع بين يديك جملة من الرؤى التي أراها تعيق الباحث في مجال الدرس والبحث ، آمل أن تكون ذا قيمة ، وأن تضفي شيئا جديدا ، أو ترسخ أمرا ما .آفة البحث " التردد "التردد له سلبياته الكثيرة في بحث الباحث ، أو رأيه ، أو موضوع بحثه ، ففي الأول لاتجد لدرسه بريقا ، وفي الثاني لا ترى لرؤاه نضوجا ، وفي الثالث لا تبصر له إقداما .فتراه وهو يبحث يتوجس خيقة إما من مشرفه ، هل ينال رضاه ؟ وإما من مناقش ستوكل إليه رسالته بعد انتهائه ، ويضع الحواجز لفكره وتفكيره ، ولهذا يخسر كثيرا من الأفكار والشوراد الجميلة التي تخطر له في بحثه ، فالإبداع لا يأتي جملة واحدة ، بل هو شرارة يقذفها العقل ، وتبقى الأرض الحاملة لها ، فإن كانت الأرض مترددة ، كان طعاما للرياح السائرة ، فتطير من بين يديه ، وإن كانت الأرض خصبة أسقتها ، ونشأت وترعرعت ، واستوت على سوقها .وقد قال سقراط في العلم : إذا أثبتته الأقلام لم تطمع في دروسه الأيام .وأقول : إن السنارة لا تلتقط في كل رمية سمكة ، فكذا الفكرة لا تمر في كل حين .- 2 -قرين التردد " العجلة "أجد بين التردد والعجلة جامعا ، وهو " عدم الاتزان في كلٍ " ، فكما أن التردد آفة ، فالعجلة من أخواتها ، وقد قال الشعبي : أصاب متأمل أو كاد ، وأخطأ مستعجل أو كاد ، وقد قيل :لا تعجلنّ فربّما عجل الفتى فيما يضره والعجلة في البحث العلمي تؤدي إلى خطأ في النتائج ، وسوء في التقدير ، فالباحث قد يتبين له في مسألة ما طرف ما ، يرى أنه فكرة لم يتوصل إليها أحد قبله ، فيمسك بهذا الخيط ليهدم أفكارا أخرى ، وما أسوأ النظر من زاوية واحدة للأمور ، دون قراءة شاملة فاحصة للمسألة ، وقد اطلعت على رسائل أجد فيها أن الباحث قد أمسك بخيط واحد ، وقد غمره الفرح والسرور ، وتناسى خيوطا أكثر في المسألة نفسها ، ونتج عنه خطأ في الحكم ، وضعف في التحليل ، دون أن يكلف نفسه القراءة الفاحصة للمسألة من جميع جوانبها ، والرفق في الفهم يزين الأشياء ، وتخطئة الآخرين ليس رفعة للإنسان ودليل على علو شأنه في العلم والفهم ، بل التعقل هو نور البحث والتحليل ، وعرض الفكرة بصورة هادئة مطمئنة ، يمنحها البقاء والقبول .إن العجلة في البحث تجري على أمور متعددة ، تكون في الفهم تارة ، وفي النظر السريع تارة ، وفي حب الانتهاء من البحث تارة ، وفي حب ظهور الشخصية في البحث تارة ... إلخ .كل هذا يضعف من البحث وباحثه ، فالرؤى والأفكار التي تقدم على بساط من الهدوء والتعقل ، تكون أمضى في عقول القراء ، وأكثر تأثيرا ، من اندفاع غير منضبط .ضعف التصور وأعني به عدم التفكير المسبق في طرق تناول المسألة ، وكيفية درسها ، وأنماط تحليليها ، ووضع تصورات سابقة للمبحث أو القضية التي يراد بحثها .فالتصور الأولي للمسائل يمنحها الإبداع ، والإجادة ، ويجعل الباحث يسير بأمان في بحثه ، وأذكر في هذا المقام أنّ زميلا احتار في مبحث له في رسالته ، حيث لم يجد مايكتبه فيه عدا صفحتين ، فقمت بزيارته في بيته ، وأعطاني عنوان المبحث ، فوضعت له تصورا ما ، دون أن أعرف مفردات بحثه ، وماجمعه من مادة علمية فيه ، بعدها أخبرني أنه كتب فيه في ضوء هذا التصور ثلاثين صفحة ، واستجدت لديه أشياء وأشياء .وفي اطلاعي على جملة كبيرة من الرسائل أجد أن الباحث في بعض المباحث أو المسائل يفقدها التنظيم ، والعقد الذي يجمع حباتها المتناثرة ، وسببه - برأيي - هو عنايته برصد المادة العلمية دون أن يصنع لها أطرا تجمعها ، ولهذا تجد المعلومات متناثرة ، فيذهب جهده الذي بذله في هذا السبيل .إهمال الافتراضوضع الافتراضات مهم في البحث العلمي ، ومن أهمها افتراض مكان وجود المادة العلمية من قول ورأي ، أو معلومة ، فكثيرا ما أرى أن بعض الباحثين يقصر نظره في الأماكن الواضحة ، بمعنى أنه ينسب وجود المسألة إلى باب ما ، ولا يفكر في احتمال وجوده في باب آخر ، فالعلماء - رحمهم الله - في كتبهم تتناثر بعض أقوالهم ، لا لسوء منهجية لديهم ، بل لأن سياقا ما في باب ما ، فرض ذكر هذه المسألة ، ومن ثم استغنى عن ذكرها في الباب الأم ، لكونها ليست من أصول الباب ، بل هي من فروع الفروع ، لذا على الباحث أن يوجد الافتراضات المناسبة في وجود القول أو المسألة في الأبواب الأخرى ، وذلك بالتصور الكلي للمسألة وتعلقاتها بغيرها من الأبواب .الاقتصار على فهوم الآخرينبعض الباحثين همّه إنهاء المسألة التي بين يديه ، ولذا لا يكلف نفسه العناية بالنصوص ، وقراءتها ، بل يعمد إلى فهم غيره للنص ، ليأخذ زبدة قوله فيها ، وهذا فيه تعطيل لقدرات الباحث ، وإبعادها عن مواطن التحليل والدرس ، فلم لا يفترض الباحث أنه فهم غيره ربما جانبه الحق فيه ، أو أنه فهمه من زاوية ضيقة ، ربما لا تكون مرادة لدى المؤلف ، وفي هذا السياق أذكر أني تتبعت مسألة في كتاب ، ووجدت محققا يحيل إلى رأي المبرد في المقتضب ، ورجعت للمقتضب في نفس الإحالة ، وإذا رأي المبرد مناقضا للفكرة تماما ، ووجدت آخرين نقلوا نفس الإحالة دون تثبت لرأي المبرد .لذا فإن لرجوع الباحث إلى النص فوائد عدة ، من أهمها : التمرس على قراءة النصوص ، ومحاولة استنطاق فكرتها ، وتجنب الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها بسبب الآخرين .الوثوق المطلق بالنص المحقققراءة النص هامة جدا ، والتحقيق والتمحيص فيه من الأمور المهمة للباحث ، فكم من نص محقق ، كُتب بصورة غير ماكتبه مؤلفه ، أو أنه ناله سهو من المحقق ، أو خلط ، أو تقديم وتأخير ، فالدقة في قراءة النص واستيعابه هي إحدى الدوال على تفسيره ، وفهم مراده ، لأن بعض المحققين يفوته أشياء وأشياء ، بل إنك تجد اختيارات في النسخ خاطئة ، إذ يقدم مرجوح على راجح ، وكلمة أضعف على كلمة أسد .لذا على الباحث أن يقرأ النص بروية ، محركا طاقته الذهنية في الوصول إلى فهم سوي له ، ومن اللطائف في هذا أني قرأت ذات مرة في أول خمسة أسطر من نص محقق خلطا لمحقق معروف ، حيث جعل البيت الشعري من كلام المرلف المنثور ، وغير ذلك لا يخفى على المتابعين في هذا الشأن .النقل المفرط تضيع شخصية بعض الباحثين في كثرة نقله للنصوص ، فقد يكون شغله كم تكون صفحات المبحث ، أو الموضوع الذي يريد بحثه ، ولا يفكر في الإجادة فيه ، بل أجد أن البعض لا يفكر لحظة ، هل هذا النص يثري الموضوع أو لا ؟ ، بل تجد بعض الباحثين يسرد نصوصا كثيرة لفكرة واحدة ، وكان يكفيه أن يشير إلى العالم القائل بها ، أو الإحالة إلى مصدرها .فالمطلع على الرسائل يرى أنه لو قيل لكل نص : اذهب إلى مقرك ، لمابقي من الرسائل إلا اليسير ، ويبدو لي أن الباحث لو اتجه إلى قراءة النصوص في الفكرة المراد بحثها ، ومحاولة تفهمها ، ثم بعد ذلك يصوغها بفكره في ضوء ماتوصل إليه ، فسيكون لعقله حيئذ مقام في رسالته ، فالإبداع لا يكون في استحداث الجديد فقط ، بل في إعادة صياغة الأشياء من جديد ، وترتيبها ، وتفكيكها ، ومحاولة تقديمها بصورة أخرى ، لأن ذلك قد يكون نافذة لأفكار أخرى لك أو لغيرك .الإفراط في الحواشيكل أمر يزيد عن حده ، يكون أثره سلبيا ، وإن كان الواضع أراد الاستفاضة من أجل الإفادة .إن المطلع على بعض الكتب المطبوعة ، والرسائل ، يجد أن الرسالة أو الكتاب كتابان في كتاب ، ويبدو لي أن الأمر اختلط حقا لدى بعض الباحثين ، حيث أصبحت حواشيه ، كما يفعل شراح القرن العاشر ومابعده ، ونسي ماهية الحواشي في وقتنا الحالي ، إذ هي مفاتيح لما يحتاج إليه القارىء ، وإحالات توثّق العمل ، لا أن يكون الهدف هو التزيّد ، وتضخيم العمل ، فالإجادة لاتقاس بالكم ، بل بالكيف .ولا يزال كثير من الباحثين لا يكاد يفرق بين دراسة في بحثه أو تحقيق مخطوطة ، فالعمل فيهما لديه سيان .انظروا إلى كتاب المقتضب ، وكيف صنع منه العلامة الكبير محمد عبدالخالق عضيمة مايساوي النص المحقق عشرات المرات ، وكم كنت آمل لو أن التعليقات التي ملأت الحواشي لابن ولاد ، أخرجت وقتها في كتاب محقق ، لا أن ننتظر سنوات حتى نرى كتاب الانتصار مطبوعا .وهذه رسالة بين يدي ، بذل فيها الباحث جهدا كبيرا ، يشكر عليه ، لكن - برأيي - أن عمله ليس هذا مكانه ، فها أنا أقلب ألفي صفحة ، في كل صفحة سطر واحد من النص ، ثم يخرج القول ، ويذكر صاحبه ، ويترجم له ، والبيت الشعري - إن كان فيها - ثم يسطر عشرات المصنفات التي ورد فيها هذا البيت ، ويذكر الاختلاف في قائل البيت ، ويترجم لكل واحد .. وهلم جرا .إن بعض الأعمال التي نقوم بها في الحواشي ، تكون على حساب قراءة النص قراءة جيدة ، أو سبك فكرة بصورة واضحة .إن وضع فاصلة في مكانها الصحيح الذي يتميز بها المعنى ، وتتضح بها المقال خير من حاشية لا تحمل أي قيمة .يا ترى : هل الباحثون يركزون حقا في علامات الترقيم ، ويعتنون بوضعها في مكانها الصحيح ، من أجل أن تتضح الأفكار وتبين غوامضها ؟ !!برأيي إن مفهوم الحاشية يحتاج إلى إعادة نظر وضبط ، وتوضيح لمدلولها الحقيقي ، إذ لا نريد أن نكون شارحين من حيث لا نشعر .التوثيق المستمرمما يؤخر الباحث كثيرا رجوعه الدائم لكل مبحث أنهاه ، لا لأجل القراءة الفاحصة ، أو أن نظرة تغيرت لديه ، أو ترجح لديه قول آخر ، بل رجوعه من أجل الاستزادة في التوثيق ، فيما لاحاجة لتوثيقه ، كأن يزيد مصدرا آخر في بيت شعري ، قد ملأه وقتها ، أو أن يضع مصدرا في توثيق قول ، قد وثّقه من قبل فيما هو أهم منه .وهذا مردّه إلى ذهاب منهجية ف طريقة التوثيق ، إن في الأقوال ، وإن في الأبيات ، وأمر آخر في هذا الرجوع ، ينطلق من باب " هو جهد لا بد من أن أسجل كل نقطة فيه " .والحق أن ليس كل جهد يلزم تقييده ، بل المسألة مرتبطة بالقيمة لهذا الجهد .خطة البحث ، وخطة التفكير مامن باحث إلا ويطالب بخطة لرسالته أو بحثه ، وهذا يعد من أبجديات الأعمال البحثية ، ولن أقف عندها ؛ لكونها من المعلوم بالضرورة .مايهمني هنا خطة التفكير ، وهي مرحلة تأتي بعد مرحلة استقراء النصوص ، وجمعها ، وتصنيفها في البحث ، بل هي مرحلة سابقة لكتابة البحث ، وهي الآلية التي ينبغي أن يسلكها الباحث في بحثه ، من ذلك :- طريقة تحليل المسائل ومناقشتها .- طريقة التخريج بكل أنواعه .- أسلوب البدء والانتهاء .- الترتيب الداخلي للمسألة .- العناية بعدم التداخل في المادة العلمية بين المباحث والفصول ، بحيث لا يكون هناك تكرار ، بل يحدد ماينبغي أن يكون في هذا الفصل أكثر من غيره ، وذلك بالنظر إلى الارتباط الحقيقي بين عنوان الفصل أو المبحث وبين المسائل الجزئية فيه .- المنهجية في عنوانات المسائل ... إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة في التفكير السابق لكل مبحث ومسألة في كيفية التناول والعرض .إن المشكلة التى أراها لدى بعض الباحثين من خلال قراءة رسائلهم ، أن المنهجية تفرضها الصدفة في المسائل الأول ، ثم لا يشعر بقيمة المنهجية إلا بعد أن قضى شطرا من رسالته .وهذه الآلية تنطبق على الدراسات والنصوص المحققة ، بل في أدق التفاصيل ينبغي تحديد صورتها ، كالحواشي مثلا ، وهي التي أراها في كثير من الرسائل يشوبها الاضطراب المنهجي ، فالباحث لا يحكمه منهج ، بل إن المسائل هي التي تسيّره فيها ، وينبغي أن تطرد هذه المنهجية حتى في جزئيات الشكل والنمط للأحرف ولكل عنوان في الرسالة .التساؤل الضائععنوان غريب ، لكنه حقيقة موجودة في عالم البحوث ، وأعني به سؤال الباحث نفسه : لم صنعت هذا في هذه المسألة ؟ لم خرجت بهذه الطريقة ؟ لم اختصرت النص ؟ لم لم يكن عملي بطريقة مغايرة ؟ لم اخترت هذه المنهجية ؟ .... ؟ ؟هذه وأسئلة أخرى ضائعة في ذهن بعض الباحثين ، ولهذا تجد حرجهم باديا على وجوهم حال المناقشات ، فبعضهم يعمل الشيء ، ويستبعد السؤال من القارئ أو الناقد ، وليس معنى كلامي هذا تأسيس الخوف لدى الباحث ، بقدر ماهو حب في إشعال الحاسة النقدية لدى كل باحث ، حتى يكون كاتبا وحكما وخصما في آن واحد ، حتى يتدرب على الحوار البناء من خلال نصه الذي كتبه .في أعمالي أفترض أسئلة حول صنعي ، ثم أوجد لها إجابة لكل سائل ، قد يطرح سؤاله في أي لحظة ، وهذا ماساعدني على القراءة النقدية السريعة للبحوث الأخرى .أتمنى أن نضع التساؤلات التالية أمامنا :كيف أفعل ؟ولم فعلت ؟التعالي على الملاحظةما كل عمل تعمله يعدّ صائبا ، حتى لو وافقك فيه مشرفك ، فثمة أمور يكون خطؤها أقرب من صوابها ، وعليها من الملاحظات الكثير ، ما لا تقدر على الرد عليه ، نظرا لخروجه عن منهجية واضحة فيه .أقول هذا ، لما أراه من البعض حين يريني جزءا من رسالته ، ويطلب الرأي فيه ، وحين أقرأ ماكتبه ، وأسرد الملاحظات ، تجد مدافعته تزداد ، ويحاول المحاربة ليثبت أن مافعله هو الصواب بعينه .والمسألة أهون بكثير ، فعلى الباحث من يريد الارتقاء ببحثه أن يختبر جزءا من عمله لدى من يثق بعلميته ، فلربما فاته شيء ما ، وفطن له غيره ، والبحث حين يختبر بأكثر من نظر ، يزداد حسنا وجمالا .أهم أمر أن تعلم أن النظرة الصائبة قد تغيب عنك ، وتستوطن في عقل غيرك ، حينئذ ستجد نفسك أكثر رقيا . الترابط المفقودأقرأ في بعض الرسائل تباعدا في الموضوع الواحد ، فتجد الباحث لا يرتب أفكاره داخل المبحث أو القضية التي يتحدث عنها ، فترى قفزات كبيرة في الموضوع ، قد يكون من الأسفل للأعلى ، وأحيانا يقدم مايجب تأخيره ، أو يؤخر مايجب تقديمه ، لهذا فالانتقال من فقرة إلى أخرى يجب أن يكون سلسا ، ذا ترابط في الفكرة ، ولا يكون ذلك حتى يسجل الباحث أهم النقاط التي ينوي الحديث عنها ، ومن ثم يصوغها حسب أهميتها ، لا كما تمليه الكتابة العابرة ، أو حسب إملاء الفكر والتفكير .فالتفكير والفكر لا بد لهما من تنظيم وترتيب حتى يكون عطاؤهما مرضيا ومقبولا ومؤثرا .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق